“تبطين الترع” يخفف من الهجرة المناخية في الفيوم 

كتبت- هدير الحضري:

منذ 20 عاما، قرر المزارع عاطف عبدالله، 45 سنة، وأسرته ترك محافظة الفيوم والنزوح إلى القاهرة ليعمل كحارس عقار تاركا أرض بمساحة ثلاثة عشر فدانا ورثها من جده، حينها، لم تستطع الأرض البور أن تمنحه الحياة الرغيدة بسبب نقص المياه ومواسم الجفاف المتكررة .

 

في السابق لم يكن يمتلك عاطف من المياه سوى ما يكفي لري قيراط واحد  لكن بعد مشروع “تبطين الترع” وتوصيل المياه إلى نهايتها عاودت الأرض بعض الحياة، ثم بعد 20 عاماً ترك العاصمة التي قصدها لتأمين دخل لأسرته، وعاد الى الفيوم ليزرع أرضه.

 

يقول: ” ارتحلنا إلى القاهرة بعدما اتضح أن الزراعة وقتها بلا جدوى، لكن في العام الماضي بدأ جيراني في زراعة أراضيهم وحصلوا على المياه بعد تبطين الترع، حدثني أحدهم وقال لي: عد وازرع أرضك وارويها ولا تتركها وحدها، الآن أزرع الآن محصول القمح والبصل”.

 

تبلغ أطوال الترع في مصر33 ألف كيلو تقريبًا تمتد من الإسكندرية حتى أسوان، وكلها ترع طينية تم إنشائها منذ 200 عاماً ولا يوجد بها تبطين وتتعرض فيها المياه للفقد بنحو 19 مليار متر مكعب، كما تُعاني الترع والمصارف من مشاكل صحية وبيئية وعلى رأسها أكوام القمامة والمخلفات التي تسد المصارف المائية، مما يسبب معاناة للأراضى الزراعية، وفقاً لموقع الهيئة العامة للاستعلامات الحكومي.

لهذه الأسباب، أطلقت مصر المشروع القومي لتبطين الترع لحماية المياه من الهدر في الشبكة المائية على طول مجرى النيل، والمساعدة على رفع كفاءة الري في الحقول من 50% إلى 75 %  وزيادة إنتاجية ما لا يقل عن 250 ألف فدان من الأراضي الطينية، والحد من النفقات المتزايدة لصيانة الترع ونزع الحشائش وتحسين سريان المياه بهذه الترع، وبدأ تنفيذ المرحلة الاولى بقيمة تقديرية 2.8 مليار جنيه فى حوالى 398 ألف فدان، وتتوزع مصادر التمويل بواقع %60 من الاعتمادات المحلية و%25 من القروض الخارجية و%15 في شكل منح من مؤسسات التمويل الدولية التي تدعم برامج أنظمة الرى الحديث، ومن المقرر الانتهاء من العمل بالمشروع في عام 2030.

 

قصة عاطف تتشابه مع قصص العشرات من أبناء قريته، ومنهم جمال سعيد، 37 سنة، والذي ترك أرضه الجافة في الفيوم وسافر للبحث عن عمل في ليبيا ومنها إلى السعودية، قضى سنوات لم يجد فيها عائداً مجدياً من الأرض ففي فصل الشتاء حين تنخفض درجة الحرارة يستطيع زراعة اثنين من خمسة فدادين يملكهم، وفي الصيف لا تكفي المياه سوى لزراعة فدان واحد.

لم يسافر سعيد وحده بل حذا حذوه العديد من أصدقائه ومعارفه، لكن منذ عامين عاد ليزرع أرضه. يقول: “تبطين الترع جعلني قادراً على زراعة 90 في المائة من أرضي لأنه عمل على زيادة الماء، الآن أزرع الزيتون والقمح والبصل والبرسيم، وأرى المزارعين يعودون لإحياء أرضهم”.

في الفترة ما بين شهري مايو وأغسطس من كل عام، كان يعاني سالم حمدي، 43 سنة، مزارع في الفيوم ورئيس رابطة مستخدمي الري، من اشتداد الجفاف مع تصاعد درجات الحرارة، فلجأ مع رفاقه منذ سنوات إلى تبطين بعض الترع الداخلية بالطوب الأبيض والأسمنت، وكان هناك تحسنا جيدا.

يقول: “توسعت المجاري المائية مع عمليات التطهير المستمرة، وبالتالي لا تأخذ المياه مجراها الطبيعي ونمت فيها الحشائش وبالتالي يصبح اندفاع المياه فيها إلى الأراضي ضعيف، في الماضي كنا نقوم بجهودنا الذاتية لتبطينها أما الآن بعد المشروع فالوضع أفضل كثيراً وأصبحنا قادرين على زراعة أغلب المساحة في أراضينا”.

ووجدت دراسة أعدها الدكتور عادل معتمد، باحث مصري وكان يعمل كخبير للتخطيط البيئي بالهيئة العامة للتخطيط العمراني بوزارة الإسكان، بعنوان “التكلفة البيئية والاقتصادية للتصحر بأراضي الفيوم”، أن المحافظة خسرت في الفترة بين 1987 و2018 نحو 12850 فدان زراعي، كما تكبدت خسائر تقدر ب 350 ألف طن من القمح خلال العروات الشتوية، و450 ألف طن من الذرة خلال العروات الصيفية.

يقول معتمد في مقابلة معه: “كان هناك خسائر مالية بسبب فقدان الإنتاج الزراعي تقدر بنحو 150 مليون جنيه، إضافة إلى خسارة قيمة الأرض نفسها وتقدر ب 200 مليون جنيه”.

وأضاف: ” التصحر هو تراجع القدرة الإنتاجية للأرض، وهو مشكلة تتداخل فيها العوامل الطبيعية مع العوامل والمسببات البشرية، تنعكس آثار التغيرات المناخية وخاصة ارتفاع درجات الحرارة وتراجع معدلات سقوط الأمطار على حالة الأراضى الزراعية فتتعرض للتدهور، وفي المقابل فإن نقص الغطاء النباتي الطبيعي يزيد من حدة التغيرات المناخية ؛ فتنخفض معدلات الرطوبة، وتتراجع معدلات التبخر، ومن ثم تقل فرص سقوط الأمطار ويزداد تأثير وحدة درجات الحرارة والإشعاع الشمسي” .

التغيرات المناخية سبب من ضمن أسباب عديدة أثرت على أراضي الفيوم، فوفقاً للباحث، تعتمد المحافظة فى توفير مياه الري للأراضي الزراعية على مياه نهر النيل التي تصلها عن طريق بحر يوسف، وتساعد خصائصها التضاريسية على زيادة التدهور لأنها واحة منخفضة، كما أن عملية الصرف الزراعي وعدم كفاءة عملية التخلص من ماء الري الزائدة على حاجة التربة  تمثل أحد أهم العوامل التى تزيد من مشكلة التربة وتصحرها.

وتابع: “قدمت محافظة الفيوم نحو 12850 فدان من الغطاء النباتي خلال الفترة من 1987 – 2018، خاصة في ظل انتشار واسع للأمراض التي تنقلها حشرات تنشط فى ظل الظروف الجافة، وزيادة معدلات تعرية التربة وانجرافها تحت تأثير الرياح التى تنشط فى ظل الجفاف، والتعرية المائية التي تزداد حدة مع سقوط الأمطار بعد سنوات من الجفاف وانحباس المطر 

وقال: “محافظة الفيوم أحد أهم مصادر الهجرة الداخلية للسكان الذين يتركون المحافظة متجهين إلى  القاهرة والجيزة، كما أنها من أكبر مصادر الهجرة غير الشرعية المتجهة إلى أوروبا بسبب صعوبة الأوضاع الاقتصادية وتدهور حالة الأراضي الزراعية وانخفاض إنتاجيتها وارتفاع تكاليف صيانة تلك الأراضي و تدني العوائد المالية”.

وأشار إلى أن عملية صيانة الأراضي الزراعية وإعادة تأهيلها لاستعادة عافيتها الإنتاجية من المهام الصعبة والمكلفة لكن الاهتمام بالأراضي من خلال عمليات التحسين والصيانة المستمرة يمكن أن يحقق نجاحا، كما أن ممارسة أساليب الري الحديثة كالرى بالتنقيط ، والري بالرش يمكن أن تحقق كفاءة عالية لاستعمال الموارد المائية وتقليل خطورة عمليات الري التقليدية التي تضيف المزيد من المياه إلى التربة وتقلل من كفاءتها، إضافة إلى ضرورة رفع مستوى كفاءة المصارف الزراعية للتخلص المستمر من المياه الزائدة على حاجة الأراضي الزراعية بالمحافظة .

وقال الدكتور محمد القرش، المتحدث باسم وزارة الزراعة، إن توفر المياه هو التحدي الرئيسي الذي يواجه قطاع الزراعة في مصر وهو المكون الرئيسي لاقتصاد الدولة، لذا تسعى الوزارة بالتعاون مع وزارة الري وجهات أخرى إلى تحديث نظم الري.

وتابع في مقابلة معه، أن مصر تنفق مليارات الجنيهات على مشروع تبطين الترع لتصل المياه إلى نهايتها وبالتالي تتوفر المياه اللازمة للري للمزارعين.

في السياق ذاته، توقعت دراسة أصدرها المركز المصري للدراسات الاقتصادية أن يسهم مشروع الحكومة لتبطين قنوات الري، وتطبيق نظم الري الحديثة مثل الري بالتنقيط، في تحقيق وفرة مائية قدرها 21.7 مليار متر مكعب سنويا، كما سيتم توفير ما يتراوح بين 8% – 55% من الأسمدة، مع تحقيق زيادة في الإنتاج تتراوح ما بين 1% – 50% للمحاصيل المختلفة.

ووجد تقرير نشره البنك الدولي بعنوان Groundswell في عام 2018، أن تغيّر المناخ  قد يجبر 216 مليون شخص في ست من مناطق العالم على الارتحال داخل حدود بلدانهم بحلول عام 2050، وقد تظهر بؤر ساخنة للهجرة الداخلية الناجمة عن تغيّر المناخ بحلول عام 2030، مطالباً بسرعة التحرك لاتخاذ إجراءات فورية للحد من الانبعاثات العالمية لغازات الدفيئة ودعم التنمية الخضراء الشاملة للجميع، وهذا من  شأنه أن يحد من نطاق الهجرة بسبب تغير المناخ بنسبة تصل إلى 80%.

وقالت فيفيان كلايمان، متخصصة في التغيير المناخي ومعدة التقرير المذكور عن “النزوح الداخلي” في مقابلة خاصة عبر البريد الالكتروني، إن تغير المناخ محرك قوي للتنقل، فبحلول عام 2050، وإذا لم يتم اتخاذ إجراءات مناخية ملموسة سيكون هناك أكثر من 216 مليون شخص، أو حوالي 3%  من السكان في أفريقيا وشرق آسيا ودول الخليج المحيط الهادئ وجنوب آسيا وشمال إفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، سيتحركون داخل بلدانهم بسبب الآثار البطيئة لتغير المناخ. 

وتابعت في مقابلة معها: “في شمال إفريقيا وحدها ، يمكن أن يصل عدد المهاجرين الداخليين بسبب المناخ إلى 19.3 مليون بسبب ندرة المياه الحادة وآثار ارتفاع مستوى سطح البحر في المناطق الساحلية ذات الكثافة السكانية العالية ودلتا النيل”.

وأضافت أن النقاط الساخنة للهجرة المناخية ستبدأ في الظهور بحلول عام 2030 ، ومن المتوقع وجود بؤر مناخية ساخنة للهجرة في وادي النيل ووسط الدلتا، و الساحل الشمالي والجنوبي لتونس، والجزء الشرقي من الساحل الجزائري والساحل الشمالي للمغرب،  وستشمل هذه النقاط مناطق حضرية كبيرة ومتوسطة الحجم مثل القاهرة والجزائر وتونس وطرابلس وممر الدار البيضاء والرباط وطنجة ، مما يضخم اتجاهات النمو السكاني المتوقعة في هذه المناطق. 

وعلقت: “على وجه التحديد ، تتزامن النقاط الساخنة مع المناطق التي يُتوقع أن تزيد من إنتاجية المحاصيل وتوافر المياه، وبشكل عام  تميل المناطق الساحلية الريفية أيضًا إلى الهجرة بسبب المناخ ونتيجة لذلك، يمكن أن يتراجع النمو السكاني في هذه المناطق الساحلية ، مدفوعًا بشكل أساسي بتراجع توافر المياه في دلتا النيل.

وأضافت أنه في بلدان المشرق ، يمكن أن تعمل ندرة المياه والإجهاد الحراري وتدهور الموارد الطبيعية بشكل متزايد كعوامل دفع للهجرة في البلدان التي تزيد من تفاقم الصدمات.

وأضافت أن العمل المبكر لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية ولضمان التنمية الشاملة والمرنة أمر ضروري ، ويمكن أن يقلل من حجم الهجرة الداخلية بسبب تغير المناخ.

وقالت إنه يمكن أن يوفر فهم حجم ومسار الهجرة الداخلية للمناخ إلى جانب نقاط الضعف المختلفة وجاذبية النقاط الساخنة أساسًا أقوى للتخطيط الاستباقي، كما أن التوسع في المدن الساحلية يحتاج إلى إجراء تخطيط حضري مرن وشامل للمناخ يراعي مخاطر المناخ وتأثيراتها على القطاعات الاقتصادية الرئيسية والبنية التحتية الحضرية، وفي الوقت نفسه ، ستظل تدابير التكيف حاسمة بالنسبة لقطاع الزراعة، ومن المهم الإدارة المتكاملة لموارد المياه وتطويرها للمساعدة في التخفيف من ندرة المياه وزيادة المرونة الاقتصادية والاجتماعية. في الوقت نفسه ، نظرًا للتصعيد المحتمل لآثار تغير المناخ إلى ما بعد عام 2050 .