صياد البلاستيك!

يتهادى عرفة، بمركبه الملون بفخر على وجه النيل الرائق، يلمح كيسا من البلاستيك يعكر فخره، فينطلق نحوه ويصطاده.. يعمل عرفة، صيادا للسمك والبلاستيك أيضا.

27 عاما قضاها عرفة، منذ كان عمره عشر سنوات، حاملا شباكه لصيد السمك ليعول أسرته ويمارس المهنة التي أحبها، ولكن تناقص الأسماك بسبب تلوث النهر بمخلفات البلاستيك دفعه لتعديل بسيط، فاِمتَهَنَ صيد البلاستيك مع السمك.

صيد البلاستيك.. و13 مليار زجاجة!

تستهلك مصر ١٣ مليار زجاجة و١٤ مليار كيس بلاستيكي سنويا، ولا يؤثر التلوث البلاستيكي فقط على الأسماك وحصيلة شباك الصيادين في الجزيرة الصغيرة، فالبلاستيك العائم في المياه يستغرق مئات السنوات ليتحلل، ولكنه يتفكك بفعل أشعة الشمس والمياه لجزيئات أدق تجد طريقها لبطون الأسماك، ومنها إلى أطباق غدائنا، كما يتسرب مع مياه الشرب، ويصل للتربة والمزروعات، قبل أن ينتقل من النهر إلى البحار والمحيطات.

التغير المناخي، وزيادة انبعاثات الغازات الدفيئة، من تداعيات التلوث البلاستيكي الذي يمثل تهديدا لصحة الإنسان. ربما لا يعرف عرفة، بدقة ما تعنيه تلك المصطلحات، لكنه يقظ كفاية ليشير لطفليه اللذين يرافقانه بينما يصطاد البلاستيك قائلا: “أنا بانضف النيل عشانهم”.

يحمل عرفة، حصيلته اليومية من البلاستيك، وينقلها لمقر مبادرة “فري نايل”، حيث يستقبله رفيق مهنته وجاره على جزيرة القرصاية بنيل الجيزة، عم سيد، وهو صياد سمك وبلاستيك، وموظف أيضا بالمبادرة.

رحلة جديدة تبدأها الزجاجات البلاستيكية التي تم اصطيادها بعد وصولها للمختصين بالفرز بمركز الصيادين، حيث يتم تصنيفها لزجاجات بيضاء، وأخرى خضراء، بالإضافة لمخلفات المايكروفايبر، ثم كبسها تمهيدا لنقلها لمصانع إعادة التدوير

تم اكتشاف مستويات عالية من الجسيمات البلاستيكية الدقيقة في الأسماك من مصر، مقارنة بأجزاء أخرى من أفريقيا والعالم، وتحتل إفريقيا المرتبة الأولى في النفايات البلاستيكية التي تمت إدارتها بشكل سيء، بحسب دراسة اللدائن الدقيقة في النظم البيئية الأفريقية.

في مناطق متفرقة من الجزيرة لن تخطئ أنفك أو عينك رائحة الحرائق الصغيرة ودخانها، وكذلك أكوام متفرقة من القمامة.

أم محمد، هي واحدة من سكان الجزيرة، قالت إنه لا يوجد أي جهة تجمع القمامة من سكان الجزيرة، أو توفر لهم صناديق كبيرة لجمعها، لذا يصطر بعض السكان للتخلص من القمامة بحرقها أو إلقائها في المياه الراكدة.

النهر الأطول في العالم سيئ الحظ!

بعد عدة خطوات، كان هناك شابين يجمعا المخلفات البلاستيكية من واحدة من أحد أماكن إلقاء القمامة، وقد جمعا أكثر من عشر أجولة ممتلئة.. علمنا لاحقا أنهما يعملان لصالح فري نايل، ولكن يبدو أن منظومة جادة لجمع المخلفات ضرورية لمنع تسرب البلاستيك والمخلفات للنيل من الجزيرة وغيرها.

النهر الأطول في العالم سيئ الحظ، رغم ما خلق على ضفافه من حياة، فحيث تبدأ منابعه الأولى عند بحيرة فيكتوريا، يعيش ٣٠ مليون شخص تمدهم البحيرة بالمياه والأسماك وطرق للنقل، وتستقبل في المقابل كميات ضخمة من النفايات والبلاستيك.

أوغندا جونيور رانجرز، فريق يعمل على تنظيف بحيرة فيكتوريا، حيث يجمعون مثل فريقنا المصري القمامة والبلاستيك من البحيرة وفرزها تمهيدا لإعادة التدوير.

يصب النيل في البحر المتوسط، وهو بحر شبه مغلق مع اتصال محدود بالمحيط الأطلسي، ما يجعله أكثر عرضة لتراكم البلاستيك، ومصر هي الأولى في تسريب البلاستيك للبحر المتوسط، تليها إيطاليا ثم تركيا.

السبب الرئيس وراء تسريب البلاستيك في مصر، هو إدارة 95% من النفايات بشكل سيئ، بحسب دراسة للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة والموارد الطبيعية.

تنتقل الجسيمات البلاستيكية الدقيقة إلى أنسجة وخلايا الجسم، وتسبب إثارة اضطرابات الغدد الصماء، والطفرات الجينية، والاستجابات السرطانية، وفق دراسة الجسيمات البلاستيكية في مياه الشرب والآثار المحتملة على صحة الإنسان.

غداء جماعي على شاطئ نظيف

بينما تجري عمليات الفرز والكبس والتجميع والتغليف، تتولى اثنتان من سيدات الجزيرة، إعداد وجبة الغداء في مطبخ صغير تفوح منه روائح شهية، والتي سيجتمع للاستمتاع بها على شاطئ تم تنظيفه، فريق المبادرة والصيادون ومختصو الفرز وفنانات المشغل، بعد منتصف اليوم، وسيدعون بكرم وإصرار المتطوعون والزوار لمشاركتهم.

بعد الغداء، ستواصل فنانات المشغل، واللاتي يقمن جميعا بالجزيرة، أعمالهن في خلية صغيرة، حيث تقوم كل مجموعة منهن بمهمة تنتهي بإنتاج مشغولات فنية يدوية من البلاستيك المعاد تدويره.

تبدأ الرحلة بتعقيم الأكياس البلاستيكية، ثم تتولى سيدة من الفريق فرز الأكياس البلاستيكية وفقا للنوع واللون والسماكة، وتنتقل الأكياس منها لفريق آخر، حيث تقوم سيدتان بكي الأكياس البلاستيكية للوصول للون والسمك المطلوب، وكذلك لوضع النقوش المأخوذة من أكياس بلاستيكية عليها.

ثم تنتقل الأكياس لغرفة المشغل حيث يجري تشكيلها، تصنع إسراء، أغلفة زرقاء تطرز أطرافها باللون البرتقالي لأدوات المائدة، وتكتب عليها بالإبرة والخيط “بالهنا والشفا”.. يعمل الفريق حاليا لتوفير متطلبات أحد المطاعم.

في أوقات أخرى تنتج إسراء، وأم هنا، وأم محمد، منتجات أخرى، مثل أغطية علب الغداء، وأكياس حفظ الأقلام، وأكياس للنقود، وأخرى لأدوات المكياج، وشنط للحواسب المحمولة، وأخرى لحمل المشتريات، وأوعية مزينة بالبلاستيك والكروشيه، وستائر ملونة، وجميعها من البلاستيك.

كانت أم هنا، مشغولة بتطريز حواف “بانر” أو يافطة للمطعم الجديد، الذي يعمل الجميع على توفير حاجياته، لكنها شاركتنا كالجميع هنا، فخرها بما تحققه من عائد لصالح أسرتها، والبيئة.

تحرص الفنانات هنا، على الجودة حيث تختص إحداهن بمراجعة المنتج، والتأكد من جودته وتقوم بإزالة أي خيوط زائدة، ثم تلصق كارتا صغيرا مكتوب عليه اسم صانعة المنتج وكم استغرق من وقت لإنتاجه، وتنتهي مهمتها بوضع مركب ملون صغير، وهو شعار فري نايل، في سحاب “سوستة” المنتج. 

٤ سنوات مع النيل والبلاستيك

بدأت مبادرة فري نايل، جمع البلاستيك من النيل عام 2018 عبر تنظيم فعاليات بواسطة متطوعين وشركات لتنظيف النيل، وهنا برزت فكرة تفعيل دور الصيادين، والتي تحدث عنها هاني فوزي، مدير مشروع الصيادين بفري نايل.

هرمان من البلاستيك المستخرج من النيل، كانا رسالة من المبادرة لزيادة الوعي، بضخامة مشكلة التسرب البلاستيكي في النيل، وبلغ حجم الأول 4.5 طن، أما الهرم الأكبر فتكون من 18 طنا.

نجحت المبادرة خلال فترة عملها، بتكوين شراكات مع جهات حكومية، مثل وزارة البيئة التي وقعت بروتوكولا مع المبادرة يسمح لها بالقيام بأعمال تنظيف على طول مجرى النيل من أسوان جنوبا وحتى المصب في دمياط ورشيد، بالإضافة لشراكات مع وزارة الري، وهيئة المسطحات المائية.

تحظى فري نايل، بدعم عدد من شركات القطاع الخاص عبر تفعيل مسؤوليتها المجتمعية، حيث يقوم العاملون بها بالمشاركة في حملات رفع المخلفات البلاستيكية من النيل، وحضور دورات للتوعية بمخاطره، وورش إعادة التدوير التي تقدمها سيدات المشغل.

واجهت فري نايل، تحديا في إقناع الصيادين بالمشاركة في جمع البلاستيك، وبأن ذلك سيحقق لهم فوائد على المدى البعيد عبر زيادة الثروة السمكية.

توفير حافز مادي للصيادين مقابل البلاستيك مع ضعف حالة الصيد، شجع الصيادين على التعاون مع المبادرة، خاصة مع اقتناع عدد منهم بالفكرة وتشجيعهم آخرين على الانضمام.

“عندنا تحدي كبير في توسيع شغلنا لإن كمية المخلفات ضخمة وتفوق التخيل”، بحسب هاني فوزي، المسؤول بالمبادرة، والذي يرى أن التوسع يتطلب دعما كبيرا بسبب طول مجرى النيل.

تخطط المبادرة، للعمل في نيل عدد من المحافظات الأخرى خلال الفترة المقبلة، ومنها القليوبية، وبني سويف، والمنيا، ولكن ذلك يمثل تحديا لما يتطلبه من توفير دعم مادي.

من بين أكثر 100 نقطة في العالم تدفع البلاستيك نحو البحر المتوسط، كان نصيب مصر 75 نقطة، وكان أغلبها يقع على النيل، وعبره تندفع المخلفات البلاستيكية نحو البحر المتوسط، بحسب دراسة للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة.

يرى هاني، أن ضعف الوعي المجتمعي بمخاطر البلاستيك هو أكبر تحد يواجهونه، لأنه يعني استمرار تدفق آلاف الأطنان من البلاستيك إلى النيل وهو ما يزيد من صعوبة مهمتهم.

مناخ.. صياد البلاستيك