مصر: زراعة المانجروف فرصة بيئية واقتصادية 

  • كل بذرة مانجروف جديدة تساهم في حماية العالم 

  • عسل المانجروف.. فوائد اقتصادية مقابل بعض التحديات 

لمسافة تقدر بساعتين أو أقل، يقطع الدكتور محمود الطريق كل بضعة أيام من محافظة قنا حيث يسكن إلى مدينة “سفاجا” ليمارس عمله كمشرف على منحل العسل المقام وسط أشجار المانجروف في البحر الأحمر.

في الربع الأول من العام الماضي، بدأت الحكومة المصرية تنفيذ مشروع زراعة أشجار المانجروف للمساهمة في إعادة تأهيل ستة مناطق على الساحل المصري للبحر الأحمر، ومستهدفة تغطية 210 هكتارات بهذه الأشجار عن طريق زراعة 50 ألف شتلة “نبتة صغيرة” كل عام، وبالتوازي أنشأت منحل عسل بإحدى هذه المناطق في “سفاجا” لإنتاج عسل المانجروف.

استعادة تواجد “المانجروف” أصبح ضرورة في ظل تقديرات علمية حديثة تؤكد اختفاء هذه الأشجار بمعدل خسارة يتراوح من 1 إلى 2٪ سنويًا، ووصل إلى 35٪ خلال العشرين عامًا الماضية بسبب التغيرات المناخية مثل ارتفاع مستوى سطح البحر، والأنشطة البشرية مثل التنمية وتربية الأحياء المائية واستغلال الأخشاب، وهذا يمثل خطورة حقيقية لأن نسبة المانجروف لا تزيد عن 0.4% من إجمالي مساحة الغابات في العالم وفقا لليونسكو.

المانجروف “حارس قوي للطبيعة”

مشروع زراعة المانجروف جزء من الاتجاه إلى ممارسات بيئية تهدف إلى التخفيف من آثار التغير المناخي وزيادة القدرة على التكيف، إذ تعتبر بمثابة حارس قوي للطبيعة، تنمو في المياه المالحة وتعمل كحواجز طبيعية إذا ارتفع منسوب البحر وتحمي الشواطئ من التآكل، وتعتبر جزء مهم من نظام “الكربون الأزرق” فتمتص ثاني أكسيد الكربون وتحتفظ به، كما أنها المصدر الأهم للحفاظ على التنوع البيولوجي وبيئة حاضنة للعديد من الطيور والأسماك والكائنات الأخرى.

في المنحل الذي يضم 20 خلية نحل، يشرف على العمل الدكتور محمود عباس الذي يعمل أيضاً كأستاذ بقسم وقاية النبات بجامعة جنوب الوادي، وفيه يتغذى النحل على رحيق نوعين من أشجار المانجروف المنتشرة على ساحل مدينة سفاجا لينتج نوع نادر من العسل نظرا لقلة مساحات المانجروف على مستوى العالم.

نجح منحل العسل في خلق فرص عمل لبعض السكان المتواجدين في المنطقة، ووفقاً للدكتور محمود، الذي أشار إلى أن العسل يخرج بمواصفات مميزة لأن النحل يتغذى على أشجار المانجروف التي تنمو في المياه المالحة، لذا لا تحتاج إلى الري بمياه عذبة أو إلى تدخل الإنسان ليضيف أسمدة أو مبيدات زراعية، وبالتالي نحصل في النهاية على عسل طبيعي ونقي وخالي من الشوائب.

كان لعباس خلال عمله بعض الملاحظات الشخصية، فرأى أزهار المانجروف التي يتغذى النحل على رحيقها تظهر في فترة مبكرة في الشتاء ما بين شهر يناير وأبريل، وهي شهور عادة ما تكون صعبة في حياة النحل بسبب قلة النباتات التي تزهر في هذا التوقيت وبالتالي اعتبر ذلك ميزة إضافية.

تحديات

لم تخلو تجربة إنتاج العسل من التحديات، أولها هو موسمية الإنتاج  لأن النبات لا يزهر طول العام، لذا تمت إقامة “منحل عسل متنقل” يتيح سهولة نقل النحل إلى مناطق أخرى بها نباتات تزهر في توقيت مختلف مثل النباتات الجبلية، وبالتالي ينتج النحل كم أكبر من العسل خلال الموسم، مع بقاء الأمل بتطور الإنتاج مع زيادة المساحة المزروعة.

التحدي الآخر كان متعلقا بعدم قدرة النحل على التعامل مع الماء المالح، لذا ابتكر القائمون على المشروع حلا بسيطا، وهو وضع أوعية كبيرة ممتلئة بالمياه العذبة مع وضع مواد مثل الإسفنج تتيح للنحل الوقوف عليها داخل الأوعية للشرب ، ويتم تجديد هذه المياه باستمرار.

يستمتع عباس برؤية التنوع البيولوجي للكائنات الحية حول أشجار المانجروف، إذ رصد في زيارات العمل أنواعاً أخرى من النحل والفراشات والحشرات، والكثير من الأسماك المختلفة، وبعض الطيور المهاجرة مثل طير “الوروار” الذي يقضي جزء من رحلته في هذه المنطقة ليتغذى على بعض الحشرات.

تضم الغابات معظم التنوع البيولوجي لكوكب الأرض،  إذ تشير تقديرات تقرير أممي صادر عن “الفاو” العام الماضي إلى احتوائها على 60,000 نوع مختلف من الأشجار، و80 % من أنواع البرمائيات، و75 %من أنواع الطيور، و68 %من أنواع الثدييات على الأرض.

اهتمام أممي

العمل داخل هذا المشروع جاء بالتوازي مع اهتمام مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ هذا العام في غلاسكو، بتخصيص عدة جلسات لمناقشة تأثير إزالة الغابات على أزمة المناخ العالمية، كما خصص بعض الجلسات لمناقشة الدور الحيوي لغابات المانجروف على الأخص في حماية النظام البيئي، في وقت قد يتسبب فيه قطع غابات المانجروف جميعها في إنتاج ما يصل إلى 10% في المائة من انبعاثات الكربون العالمية وفقا لدراسة لوكالة ناسا.

في السياق نفسه، يتوافق المشروع المصري مع أهداف عقد الأمم المتحدة لاستعادة النظم الإيكولوجية  الذي يبدأ هذا العام، والذي يخطط لاستعادة الغابات المتدهورة عن طريق التشجير وزراعة أنواع أصلية من الأشجار، مع الحفاظ على النباتات والحيوانات الفطرية وحماية التربة ومصادر المياه التي تشكل جزءاً من النظام الإيكولوجي للغابات.

في مصر، تبلغ مساحة غابات المانجروف حوالي 5 كيلومتراً أي ما يعادل 1500 فدان وفقا للدكتور سيد خليفة نقيب الزراعيين المصريين، ومدير هذا المشروع الذي تتشارك فيه عدة جهات حكومية مصرية، ووصف هذه الأشجار بأنها “حواجز طبيعية” لحماية شواطئ البحر الأحمر، وهو ما لا يتوفر في شواطئ البحر المتوسط على سبيل المثال لذا تضطر الحكومة إلى صنع تكتلات أسمنتية للتصدي لارتفاع منسوب مياه البحر وتحمي المدن.

حتى عام 2005، كان بعض السكان المصريين الذين يعيشون حول غابات المانجروف يتجولون بالإبل والجمال لتتغذى على هذه الأشجار ما أدى إلى تدهورها، لكن مع زيادة حملات التوعية ودخول أنشطة اقتصادية على هامش الغابات مثل مناحل العسل، توقفت هذه الممارسات كما يرى خليفة.

فوائد المانجروف

في رأيه، لا تقتصر فوائد المانجروف على حماية البيئة وحضانة الكائنات الحية، بل لها منافع اقتصادية أيضاً إذ تمثل قيمة سياحية مهمة، وتجذب السياح من دول عديدة للاستمتاع بالطبيعة.

خلال السنوات السابقة، استمر الباحثون المصريون في إجراء التجارب لمعرفة الطريقة الأفضل لتكاثر المانجروف، وفي النهاية استخدموا “طريقة إكثار البذرة” كحل أفضل، إذ يقومون بتعبئة البذور داخل أكياس داخل “مشاتل زراعية” في مياه مالحة، ولاحقاً ينقلونها إلى أماكن زراعتها.

يعتقد خليفة أن مصر ستتوجه إلى زيادة مساحة هذا المشروع ودعمه بمزيد من الاستثمار في السنوات المقبلة.

في سياق آخر، يمكن أن يصبح مشروع زراعة المانجروف في مصر جزء مهم من مبادرة “الشرق الأوسط الأخضر” التي أطلقتها المملكة العربية السعودية لزراعة 50 مليار شجرة، هذا ما يراه  الدكتور محمد فهيم، رئيس مركز تغير المناخ الزراعي المصري.

زراعة هذا العدد الضخم من الأشجار الأخرى خلال المبادرة سيمثل بالضرورة ضغطاً كبيراً على الموارد المائية المطلوبة، لذا يمثل المانجروف مساهمة قوية لأنه لا يحتاج إلى الري بمياه عذبة و سيخفف من هذا الضغط إضافة إلى فوائده البيئية، ووفقاً لفهيم، تساهم الأشجار منذ بداية زراعتها في امتصاص ثاني أكسيد الكربون، وكلما زاد حجمها زادت قدرتها.

في كل ثلاث ثوان، يفقد العالم من الغابات ما يساوي ملعب كرة قدم كما يرى تقرير أممي، ولعل هذا الوصف المخيف قد يدفعنا إلى التفكير في كيفية استعادة المساحات المتدهورة من الغابات التي تمثل أهم حراس للطبيعة.


** تم نشر هذه القصة أولا بالانجليزية عبر موقع Climate Tracker