اعتاد أحمد فتح يومياً على مشاهدة صرف محطة كهرباء الوليدية ناتج مياهها في نهر النيل. يملك فتح البالغ من العمر ثلاث وثلاثين ربيعاً قطعة أرض مجاورة للمحطة، يرويها من مياه النيل الذي اختلطت مياهه بناتج صرف محطة الكهرباء العاملة بالمازوت.
تراجعت انتاجية أرض أحمد منذ سنوات، بسبب مياه الري الملوثة إضافة إلى سقوط انبعاثات سوداء اللون من محطة الكهرباء المجاورة له على مزروعاته وأشجاره فتقتل ثمارها.
يمتزج الغبار والأدخنة الناتجة عن استخدام المازوت في محطة الكهرباء بمياه الشرب، كما يقول علي عبده، أحد أصحاب الأراضي بجانب محطة الكهرباء، "كلما وضعنا مياه في زجاجات لشربها نجد مواد سوداء اللون أسفل الزجاجة".
على بعد أمتار من أرض أحمد، يقطن علاء عبد الله مع أسرته، يرى يومياً من شرفة منزله أدخنة سوداء تخرج من مداخن محطة الوليدية، يصفها علاء بأنها سحابة سوداء يسقط منها أمطار عبارة عن زيت أسود على رؤوس القاطنين بجوار المحطة.
يتذكر علاء الواقعة التي حدثت منذ عامين، قائلاً: " كانت هناك أدخنة سوداء كثيفة تخرج من مداخن محطة كهرباء الوليدية، غطت الأدخنة سماء المحافظة كاملة، بسببها تساقطت الزيوت علينا، أصيب أولادي بالخوف والهلع وكأنها النهاية".
عام 2017 نشرت جرائد محلية في مصر عن فتح تحقيقات موسعة مع مسئولي محطة كهرباء أسيوط بمنطقة الوليدية، بسبب تلقي النيابة العامة بلاغات من عشرات المواطنين تفيد بوجود سحب سوداء حول محطة الكهرباء، وعلى إثر ذلك أصيب سكان المنطقة باختناق نتيجة تلوث الهواء الصادر من محطة أسيوط البخارية.
المهندسة هالة محمد مدير إدارة شئون البيئة بمحافظة أسيوط آنذاك، قالت في تصريحات لها، إن الإدارة بالمرور على محطة الوليدية والتواصل المسئولين أكدوا أنه حدث عطل بإحدى الغلايات وعقب إصلاحه لتشغيل الغلاية للتدريب نتج عنه تسرب غازات من أحد المحابس، ما أدي إلى انتشار كميات من الأتربة والغازات التي تسبب في تلوث الجو.
تقع المحطة على الضفة الغربية لنهر النيل على بعد 3 كيلو متر شمال خزان أسيوط وعلى بعد 377 كم من القاهرة، تعمل بالمازوت مع إمكانية استخدام الغاز الطبيعي كوقود بديل، تتكون من وحدتين قدرة كل منهما 300 ميجاوات. الوحدة الأولى تم بدء تشغيلها في مارس عام 1992، أما الثانية فتم بدء تشغيلها في فبراير 1997.
تم الانتهاء من تنفيذ مشروع الوحدة الثالثة لمحطة كهرباء الوليدية، والتي تعمل بالضغوط فوق الحرجة وقدرتها 650 ميجاوات بتكلفة 8 مليار جنيه.
تؤكد دراسة حديثة صادرة عام 2019، أجراها ثلاث باحثين مصريين وهم هاني الجمل، هاني نجم، محمد حسب النبي، ونُشرت في دورية"سيلوان" العالمية، أن الرماد الخارج من محطة كهرباء الوليدية يحتوى على نسبة كبيرة من النشاط الإشعاعي وأعلى من مستويات النشاط التي حددتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ويشكل ذلك الرماد خطرًا محتملًا وحقيقيًا على صحة الموظفين العاملين في محطة الطاقة والسكان الذين يعيشون داخل منطقة محطة الكهرباء.
دراسة أخرى أجراها نفس فريق البحث السابق ونشرت في المجلة الأمريكية للعلوم البيئية، وجدوا أن الرماد الناتج عن احتراق زيت الوقود الثقيل في محطة توليد أسيوط الحرارية يحتوي على ما يقرب من ألف مرة من النويدات المشعة الطبيعية أكثر من الزيت الخام. وتركيزات النويدات المشعة الطبيعية في الرماد الناتج أعلى بكثير من التركيزات المقابلة في قشرة الأرض، وأعلى بكثير من تلك الموجودة في رماد الفحم المتطاير في البلدان الأخرى.
وكذلك ارتفاع النشاط المكافئ للراديوم ومعدل الجرعة الممتصة في الهواء ومؤشر المخاطر الخارجية ومعدل الجرعة الفعالة السنوية مع القيم الدولية الموصى بها، مما يشير إلى مخاطر صحية إشعاعية كبيرة حول محطة الوليدية بسبب النويدات المشعة في التربة والهواء والماء.
للإطلاع على الدراسات العلمية الخاصة بمحطة كهرباء الوليدية
وجدت الدراسة أيضا أن نسب النويدات المشعة عالية للغاية أعلى بمراحل من متوسط القيم المرجحة في جميع أنحاء العالم في التربة والماء.
فبلغ تركيز نشاط النويدات المشعة في الزيت الثقيل والرماد في الراديوم المنبعث من محطة الوليدية، 46 ضعف القيمة في الهند و21 ضعف القيمة في بنغلاديش، و 23 ضعف القيمة في كوبا، ويبلغ تركيز نشاط الثوريوم حوالي 47 ضعف القيمة في الهند و 41 أضعاف القيمة في بنغلاديش و98 ضعف القيمة في كوبا، أما البوتاسيوم فوصل المنبثق من محطة الوليدية 31 ضعف القيمة في الهند، و48 ضعف القيمة في بنغلاديش، و 186 ضعف القيمة في كوبا.
وفقا لبرنامج التحكم في الإشعاع (RCP) فإن التعرض المستمر للراديوم والثوريوم على مدى سنوات عديدة يؤدي إلى زيادة خطر الإصابة ببعض أنواع السرطان خاصة سرطان الرئة والعظام. كما تبين أن الجرعات العالية من الراديوم تسبب فقر الدم واعتام عدسة العين وكسر الأسنان وانخفاض نمو العظام.
وكذلك التعرض المستمر للبوتاسيوم يؤدي إلى الإصابة بالتسمم والغثيان وصداع الرأس وعيوب خلقية واضطرابات في الكلى والكبد واضطرابات الجهاز العصبي.
معدو الدراسة قارنوا ثلاث عينات من نفس المنطقة في مصر بالنتائج العالمية
معد الدراسة، محمد حسب النبي، يقول لـ معدا التحقيق، إن السبب الرئيسي، لتلوث محطة كهرباء أسيوط هو استخدام المازوت كوقود، حيث يُحرق المازوت داخل أفران الكهرباء ما ينتج عنه عوادم من المداخن، وتُلحق أضرارا صحية بالمواطنين القاطنين بالقرب من المحطة، كما أن الضرر غير مقتصر على العنصر البشري فقط، بل لحق بالتربة والانتاج الزراعي، كما أن تلك العوادم تؤثر على الأبار المستخدمة في الري.
يقول د.محمد حسب النبي، الذي يعمل حاليا أستاذاً بقسم الفيزياء بجامعة بدر، إن النتائج التي توصلوا لها كانت عالية جداً، وبسببها توجه رفقة فريق الدراسة إلى محافظ أسيوط آنذاك لإبلاغه بالضرر الجسيم الواقع على عمال وسكان المحطة إلا أن رد المحافظ جاء أن المحطة مطابقة للمواصفات ولا ينتج عنها ضرر يذكر.
يؤكد حسب النبي، أنه حتى مع استبدال منبع المشتقات البترولية التي تعمل بالمحطة بمصدر آخر لا يؤدي إلى تغيير المخاطر التي يتعرض لها العاملون في المصنع والسكان المحليون المتأثرون. وبالتالي من الأهمية النظر بعين الاعتبار لمخاطر محطة كهرباء الوليدية كونها أزمة حقيقة تسبب العديد من المشاكل للسكان المحليين.
الأمراض تُلاحق سكان المنطقة
بعد ثلاث سنوات من انتقال هناء عبده لعزبة خلف في منطقة الوليدية بأسيوط، شعرت لأول مرة بخراج على الصدر. تجاهلت الأمر بسبب اعتقادها أنه ناجم عن مرض السكري المصابة به ولكن ضيق التنفس دفعها للذهاب للطبيبة، لتكتشف بعد الفحوصات بإصابتها بسرطان الثدي والرئة.
هناء التي يحوم بمنزلها دخان محطة كهرباء الوليدية، تقول لمعدا التحقيق إن المرض أصابها بعد انتقالها لتلك المنطقة، تعزي اصابتها للدخان الذي تراه وتستنشقه يومياً، حيث تراه يومياً من شرفة منزلها، بل إن الدخان الكثيف يخترق الشارع الطويل الذي يفصل بين منزلها و محطة الوليدية، جدران البيت العتيق مباشرة إلى صدرها المُتعب.
فقدت هناء زوجها منذ 4 سنوات، وأصبحت المعيل الوحيد لأسرتها ومسؤولة عن تجهيز ابنتها للزواج، ولكن المرض جعلها طريحة الفراش مثلها مثل عدد كبير من سكان المنطقة. تذهب أسبوعياً إلى معهد الأورام الحكومي بأسيوط لتعالج على نفقة الدولة، لأن ضيق الحال لا يمكنها الذهاب إلى مشفى خاصة لتتلقى رعاية أكبر.
رباب هشام، الطبيبة المعالجة لحالة هناء، وطبيبة بمعهد الأورام بأسيوط، تؤكد تزايد أعداد المصابين بسرطان الرئة خلال السنوات السابقة.
تقول هشام، إنها تعمل في معهد الأورام منذ ما يقارب خمس سنوات ولكن في الفترات الأخيرة زادت أعداد المصابين بشكل كبير، وخصوصا سرطان الرئة، فقد يزورها يومياً ما يزيد عن ثلاث أشخاص.
تضيف هشام أن استخدام المازوت في توليد الكهرباء، ينتج عنه انبعاثات ضارة بالصحة والتعرض المباشر والمستمر لهم يؤدي إلى الإصابة بالعديد من الأمراض مثل سرطان الرئة وفقر الدم وغيرها،كما أن الدخان المُنبعث من احتراق هذه العناصر يؤدي إلى الشعور بالاختناق وصعوبة في التنفس.
بخاخ الأكسجين لا يُفارق يد عثمان(اسم مستعار)، العامل السابق في محطة كهرباء الوليدية، يؤكد أن حاله لا يختلف عن حال كثير من عمال المحطة، إذ توفى صديقه بسبب مشاكل في الصدر.
جار عثمان الثلاثيني يعاني أيضا من مشاكل في التنفس، ينتقل من طبيب لطبيب ليبحث عن سبب مرضه في سن صغير، إذ وصل به الحال إلى الصعوبة الشديدة في النوم بسبب ضيق التنفس.
يؤكد أستاذ الفيزياء محمد حسب النبي، أن أكثر فئة متضررة من التلوث هم العمال داخل محطة كهرباء الوليدية، إذ يؤكد أنه كلما تراكم الحرق كلما تراكم الرماد.
أثناء عمل حسب النبي على الدراسة قابل عدد من العمال المصابين بأمراض صدرية منهم من كان يشكو من أعراض آلام في الصدر وعدم اتزان ودوخة، وتلك الأعراض من مظاهر الإصابة بالإشعاع – كما يقول حسب النبي.
وفقاً مقابلات أستاذ الفيزياء، محمد حسب النبي، مع العمال فإن أصدقائهم توفوا بمشاكل في الصدر ولكن لم يستطع البحث الوصول لأسباب الوفاة، لأنه لم يُحدد أسباب اصابات العمال أو وفاتهم من الأساس وذلك لمحدودية خبرة وتعليم العمال فلا أحد منهم يدرك حجم الخطر.
حلول مرفوضة
وفقاً لحسب النبي فإن الحل يكمن في إجراء هندسي للمداخن، لتقليل الرماد الخارج من المحطة ولكنه أيضا رُفض من قبل المسئولين.
حلول أخرى يقترحها البحث كتغير نوع المازوت المستخدم وهو ما حدث بالفعل في 2019 ولكن حسب النبي يؤكد أنهم أجروا دراسة لمعرفة أثر تغير مصدر المازوت إلا أنهم وجدوا أن نسبة الانبعاثات الإشعاعية قد قلت ولكنها مازالت متخطية الحدود المسموح بها.
لذلك يقترح حسب النبي تغيير نوع الوقود بالكامل ليكون بالغاز الطبيعي بدلا من المازوت، فهو أقل تلويثاً للبيئة.
يرفض الدكتور محمد مختار رئيس شركة الوجه القبلي لإنتاج الكهرباء – التابع لها محطة كهرباء أسيوط في الوليدية-، شكاوي المواطنين والدراسة التي أعدها حسب الله وزملائه، فيقول أن محطة الوليدية القديمة عند تشغيلها تكون مطابقة للشروط والمواصفات البيئية، وتعقيبًا على الدراسة التي أعدها متخصصين في جامعة أسيوط عن التلوث الإشعاعي الصادر من المحطة، رد مختار بأن المحطة لا تسبب أي تلوث إشعاعي على الإطلاق مشككًا في الدراسة من الأساس.
الفيديو مُرسل من المواطن علي عبده في 7 أكتوبر 2021
أضاف مختار في رده على معدا التحقيق أن محطة الوليدية تتكون من وحدتين انتاج تعملان بالمازوت وقدرة الوحدة 300 ميجاوات، وحاليا تم إيقاف وحدة واحدة والأخرى تعمل بحمل قليل وليس بكامل طاقتها، وذلك بعد الاعتماد بنسبة كبيرة على الإنتاج من الوحدة الجديدة التي تم إنشاؤها مؤخرًا بقدرة 650 ميجاوات وتعمل بالغاز الطبيعي.
ويضيف مختار أن الوحدة القديمة التي تعمل بالمازوت تم تجهيزها للعمل بالغاز الطبيعي، إلا أن العائق أمام عملها بالغاز الطبيعي هو عدم تسليم وزارة البترول لمحطة كهرباء الوليدية لـ"محطة تخفيض الغاز" والتي تعمل على تشغيل الوحدة القديمة بالغاز، وحتى كتابة هذه السطور لم تحدد وزارة البترول موعد لمحطة كهرباء أسيوط عن تسليم محطة تخفيض الغاز، حسب مختار.
وما بين انتظار محطة الكهرباء النوع الجديد من الغاز لتعمل به، ما زالت هناء عبده تعاني من المرض تقضي أيامها بين الذهاب لمعهد الأورام والتفكير في "جهاز ابنتها"، وعلاء عبد الله وجيرانه يغلقون المنزل جيداً حتى لا تتسرب الأدخنة السوداء لبيوتهم؛ في حين يقلّب الباحث محمد حسب النبي أوراقه ورموز معادلاته بحثًا عن حلٍ ناجز، ويرضي الأطراف المعنية على حد سواء.