الفلاحون يدفعون ثمن الإضاءة

ابدأ الرحلة

"لم يتخيل فتحي عبد العزيز يومًا، ولو في أشد كوابيسه قسوة، أن الأرض التي تغّرب من أجلها عشرة أعوام هو وعائلته، ستُعدم محاصيلها بسبب محطة كهرباء ملازمة لها!"


خمس أعوام قضاها فتحي عبد العزيز سكر (73 عامًا) وابنه، بعيدًا عن أحضان العائلة والقرية، لعلهما يستطيعان تكوين ولو جزء بسيط من ثمن أرض تؤمن مستقبل الأسرة.
سافر الأب إلى ليبيا ليعمل في وظائف شاقة لا تتناسب مع سنه الكبيرة، تاركًا وراءه ثمانية أبناء وزوجة، وسافر الابن الأكبر إلى السعودية دون أن يكمل تعليمه ليُساعد والده في مصروفات العائلة.


في واحدة من المكالمات الشهرية أخبرت أم الأولاد زوجها فتحي أن هناك أرضًا معروضة للبيع بسعر مناسب في قريتهم "أبو غالب"، التابعة لمحافظة الجيزة (شمال مصر)، وطلبت منه أن يفكّر في العودة ومحاولة شرائها ولو بالتقسيط والعمل فيها، لأنها لا تستطيع تحمل تربية الأبناء الثمانية بمفردها.
لمع حلم تملك الأرض في عيني فتحي، وعاد بشكل نهائي من ليبيا، وطلب من ابنه أن يعود أيضا.


شرع الرجل الستيني آنذاك في ترتيبات شراء الأرض، فجَمع هو وابنه مدخرات أعوام الهجرة العشرة، و اقترضوا الجزء المتبقي من البنك، وأخيرًا دانَت لهم 6 فدانين في قرية أبو غالب عام 2008.


الخير الوفير الذي أنتجته الأرض في أول عامين من شرائها، اعتبره فتحي عوضًا عن الأيام القاسية في الغُربة، لكن سرعان ما تحول هذا الحلم إلى كابوس!
عام 2010، قررت الشركة القابضة لكهرباء مصر بناء محطة كهرباء في قرية أبو غالب بقدرة 2250 ميجاوات، بعد اقتراض من البنك الدولي وصلت قيمته إلى 840 مليون دولار، وفقا للموقع الرسمي للبنك، وبنوك أخرى


المحطة الجديدة التي أطلق عليها فيما بعد "شمال الجيزة المركبة" كانت سببًا في تدمير المحاصيل الزراعية بسبب الأدخنة والانبعاثات الناتجة والإضاءة الليلة الشديدة من المحطة الملاصقة لأراضي فتحي وجيرانه، وفقا لشهادات خمسة عشر فلاحًا التقوا معدا التحقيق.


جفت أرض فتحي وابنه وجيرانه، بسبب قيام الشركة الحكومية بسحب المياه الجوفية من أراضي القرية؛ ولكن سرعان ما عوضتهم الشركة بمبلغ 10 آلاف جنيه (حوالي 636 دولار) لحفر آبار خاصة بهم، وإيجاد بدائل أخرى لري أراضيهم؛ ولكن تركت لهم المشكلات المتبقية يعانون منها حتى اليوم.
وكانت النتيجة خسارة فتحي وجيرانه ما يقرب من ثلث المحصول سنويًا، بسبب وجود المحطة وسط أراضيهم وسقوط أدخنتها على مزروعاتهم التي تشكل مصدر دخلهم الوحيد.


وفقًا للمستندات الصادرة عن البنك الدولي الخاصة بمحطة شمال الجيزة المركبة، فقد تم إجراء تقييم للأثر البيئي والاجتماعي قبل تنفيذ المشروع، وقام بمراجعته واعتماده جهاز شؤون البيئة المصري؛ لكن البنك يؤكد تلقيه شكوى واحدة من أربعة مزارعين يعيشون قرب محطة كهرباء شمال الجيزة في مايو/أيار 2012، مفادها أن تشييد محطة الكهرباء قد يكون لها تأثير سلبي على المياه الجوفية وإنتاجهم الزراعي، لذلك قامت الشركة المالكة بتركيب عدادات لرصد مستويات المياه الجوفية في منطقة المشروع.


ويؤكد البنك قيام شركة القاهرة لإنتاج الكهرباء (التابعة لها المحطة) جنبًا إلى جنب مع الشركات المنفذة باتخاذ تدابير لضمان عدم تأثير الغبار والإضاءة والنفايات في موقع المحطة على المزارع المجاورة.


ورغم مرور تسعة أعوام على الشكوى ما زال فتحي وجيرانه يعانون من آثار الغبار والإضاءة على محاصيلهم.
يزرع فتحي الموالح مثل اليوسفي والقشطة، وينتظر حصادها في نوفمبر، ولكن طول انتظاره يقابله الحسرة والوجع عندما تتساقط ثماره واحدة تلو الأخرى بعد سقوط أدخنة المحطة عليها.
يقدر فتحي خسارته بـ 120 ألف جنيه سنويًا بمعدل 20 ألف للفدان الواحد بسبب الثمار المحروقة.


"بحس بألم.. معدتي تتعب كثيًرا.. كيف آكل ورصيدي الذي أجري عليه طوال السنة يفسد أمام عيني"
فتحي عبد العزيز


الشكوى جماعية

حال فتحي لا يختلف عن بقية الفلاحين في القرية، فيتشاركون هم الحصاد الحزين؛ نتيجة انبعاثات عوادم صادرة عن محطة كهرباء تجاور أراضيهم، فتحوّل خضار مزارعهم للأصفر، وتهددها بالبوار، وتتساقط ثمار أشجارهم فتزيد ديونهم وهمومهم.
أكدت ورقة بحثية أصدرها المركز المصري للإصلاح المدني والتشريعي (مؤسسة مجتمع مدني) عام 2014، حملت عنوان "تعويضات أبو غالب" أن سكان القرية تكبدوا خسائر فادحة؛ بسبب إنشاء المحطة بالقرب من أراضيهم الزراعية.


واتضح أن بعض الحيازات الزراعية المجاورة لموقع المشروع كانت الأكثر تضررًا، سواء بسبب انخفاض مستوى المياه المستخدمة في ري المحاصيل، أو الغبار المتصاعد من موقع البناء، ومن ثمّ انتشار الآفات و الحشرات مثل حشرات المن، وذباب الفاكهة، والعفن البني. وكذلك آثار السياج والإضاءة المستمرة والضوضاء وتأثيراتها السلبية على عمليات التمثيل الغذائي والهوائي والتلقيح وغيرها.
أكدت الدراسة أيضا تدني إنتاجية المحصول، سواء الحقلي أو أشجار الفاكهة، وأن الإنتاجية لم تعد تتجاوز 30٪ من المتوسط​​، خاصة فيما يتعلق بالعنب وتفاح الكاسترد.
وأضافت الدراسة أن عددًا من الفلاحين تعرضوا للحبس؛ نتيجة عدم القدرة على سداد القروض التي استدانوا بها لاستخدامها في الزراعة.


الدكتور عاطف محمد فتحي، أستاذ مساعد بقسم تلوث الهواء بالمركز القومي للبحوث، والذي حصل على رسالة الدكتوراه عام 2012 في دراسة عن تأثير الانبعاثات الصادرة من محطتي كهرباء "شبرا الخيمة وحلوان"، قال إن عمل المحطات بالغاز الطبيعي يقلل من حجم الانبعاثات الكربونية، ولكنه لا يمنعها.
ويضيف فتحي أن الغازات المتعارف صدورها من مداخن محطات الكهرباء "أكاسيد الكبريت – أكاسيد النيتروجين" تحرق النبات وورقة زراعة النبات أو الثمرة نفسها، لافتًا إلى أن الغازات سالفة الذكر تسبب تلف 30% من المحصول، كما تنتج عن المداخن أتربة بعض المركبات الهيدروكربونية، وبعض المعادن الثقيلة، وبدورها تسبب ضررًا للمحاصيل والتربة معًا.


ارتفاع المدخنة - كما يقول الدكتور عاطف محمد- له عامل رئيسي في تضرر المحاصيل والأراضي الزراعية المتاخمة للمحطات، حيث أنه كلما كانت المداخن منخفضة كلما بات تضرر المناطق المتاخمة للمحطة عُرضة للضرر بشكل مباشر، بينما كلما ارتفعت المداخن كلما كانت المنطقة المتضررة على بعد عدد من الكيلومترات. وهي ذاتها المشكلة الاضافية التي يعاني منها أهالي بني غالب كما ذكروها لمعديّ التحقيق، وهو عدم التزام المحطة بطول المدخنة المحدد.


في المقابل يُشكك المهندس محمد زاهر، رئيس محطة شمال الجيزة للكهرباء، في شكاوى المزارعين، ويصفها بأنها قديمة منذ بداية إنشاء المحطة في 2010، ولم يعد هناك أي ضرر يلحق بأراضيهم أو المحاصيل الزراعية في الوقت الحالي.
ويضيف في مكالمة هاتفية مع معدي التحقيق، أن المداخن الخاصة بمحطة كهرباء شمال الجيزة لم تُصدر أي نوع من أنواع العوادم، مُشيرًا إلى أن المحطة تضم أجهزة ترصد كل شيء، منوهًا بأن المحطة في الأساس تعمل بالغاز الطبيعي، ولا يصدر عنها أي عوادم، كما هو الحال عند تشغيل محطات الكهرباء بالمازوت، كون المازوت أحد مسببات الانبعاثات الملوثة.


رحلة الشكاوي

لم تقتصر معاناة أيمن محمد وأشقائه على فقدان المحصول السنوي، فالأرض التي ورثوها عن أبيهم (ثلاثة أفدنة وربع) كانت سببًا في بحث أيمن المستمر عن جهات تسمع شكواه.
بدأ أيمن رحلة الشكاوى لإنقاذ أرضه منذ 2012، بإرسال رسائل عبر البريد الإلكتروني إلى البنك الدولي، و تحرير محاضر وشكاوي ضد محطة الكهرباء، آخرها شكوى في أغسطس 2016، حررها أيمن وإخوته وزملاؤه.


بناءً على الشكوى، نزلت لجنة من الجمعية الزراعية بقرية أبو غالب؛ لمعاينة الأراضي المتضررة، وجاء في تقريرها الذي قدمته إلى مركز منشأة القناطر، أنه "من خلال المعاينة الظاهرية، تبين وجود بقعة سمراء وصفراء اللون بالثمار، وعلى الأوراق الخضرية غير معلومة المصدر، وكذلك على الأشجار الموجودة بجانب محطة الكهرباء، وكذلك تلاحظ وجود تلفيات وتساقط ثمار على الأرض".
⇦ صورة الشكوي والتقارير


رفضت شركة القاهرة التابع لها المحطة شكاوى الفلاحين، فردت على المحضر رقم 30 لسنة 2017، الذي حرره أيمن وجيرانه، أن المحطة تم إنشاؤها بأحدث التكنولوجيا لتقليل الانبعاثات، كما توجد أحدث الأنظمة لرصدها، وذلك للمحافظة على البيئة.
وتم ربط المداخن الخاصة بالمحطة بجهاز شؤون البيئة لرصد كافة الانبعاثات الناتجة عن المحطة، وهي في حدود قوانين حماية البيئة المصري. كما تتم المتابعة الدورية للانبعاثات من خلال إدارة شؤون البيئة لشركة بالقاهرة والمعامل المركزية.


يرد أيضا الدكتور ماهر عزيز، استشاري الطاقة والبيئة وتغير المناخ، والذي كان يشغل سابقًا منصب رئيس قسم الدراسات البيئية بالشركة القابضة للكهرباء والمسؤول عن إعداد تقرير البيئة الخاص بإنشاء محطة كهرباء شمال الجيزة، أن المحطة صديقة للبيئة، ولا تصدر عنها أي انبعاثات ملوثة، ويصف شكاوى الفلاحين بأنها "كيدية".


الأرض عرض

محمد المصري محمد، صاحب 11 فدانًا بجانب المحطة، يؤكد أن المنطقة المتضررة بسبب إنشاء المحطة تتعدى مائة فدان جنوب المحطة، ويُقدر خسارته بثلث المحصول وما يقرب من 220 ألف جنيه سنويًا، أو كما يقول: "الفدان قبل إنشاء المحطة كان يصل إنتاجه لـ 40 طن من اليوسفي أو المانجو، أما الآن لا يتجاوز 18 طنًا".


يقول المصري لمعدي التحقيق، حاولنا كثيرًا قبل إنشاء المحطة في منطقتنا التواصل مع المسؤولين ليتم تأسيسها في منطقة بعيدة عن أرضنا ومنازلنا، ولكن طلبنا قُوبل بالرفض، وتم اجبارنا على هذا الخيار، رغم حيوية القرية وأهميتها لإقليم القاهرة الكبرى؛ بسبب إمدادها بثلث الموالح والفاكهة اللازمة لها
يرفض المصري وأصحاب الأراضي بيعها وترك المنطقة بسبب الضرر مؤكدين أن الأرض عرض لا يمكن الاستغناء عنها، ويتساءلون أين: "سنذهب في حال بيع الأرض؟!"


يقول الدكتور مجدي علام، مستشار برنامج المناخ العالمي، وأمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب: "إن توليد الطاقة ينتج عنه حرق بترول وغاز طبيعي بنسبة كبيرة وينتج عنه ملوثات للبيئة، ولأن مصدر الطاقة الأساسي في مصر هو الغاز الطبيعي فبالتالي الأراضي المحيطة بالمحطات يقع عليها الضرر الأكبر".
ويضيف علام، أن محطات الكهرباء ينتج عنها أمطارًا حمضية، نتيجة اختلاط الغازات الكيميائية الخارجة من مداخن محطات الكهرباء مع بخار الماء في الهواء، لتكون الحصيلة النهائية إنتاج حمض النيتريك، المتسبب في اصفرار أوراق الشجر والزراعات، وهو ما يسميه الفلاح "احتراق الزرع وتلف الثمار"، لافتًا إلى أن اقتراب الأراضي الزراعية من محطات الكهرباء يجعل محاصيلهم أكثر عرضة للضرر والتلف.


وتؤثر الأمطار الحمضية على النباتات والتربة بطرق مختلفة، وتشمل هذه التأثيرات تأثر الطبقة التي تغطي أوراق الزرع، ومنع النباتات من القدرة على القيام بعملية البناء الضوئي بالشكل الصحيح، فضلًا عن تضرر العناصر الغذائية الموجودة في التربة.


..لا يطالب فتحي وأيمن والمصري سوى بوقف الضرر الواقع على أراضيهم؛ بتركيب مرشحات للمداخن.. يتنهد فتحي قائلاً: "إحنا بناكل عرقنا بعافيتنا، مش عاوزين ولا ضرر لينا ولا ليهم". أما أيمن فيحارب يوميًا من أجل وصول الشكاوى إلى المسؤولين وإيجاد حل. بينما سعيد المصري يستعد لخسائر الإنتاجية في الموسم القادم، شهر نوفمبر.
القصة التالية