إذا لم نتحرك.. كيف يقضي تغير المناخ على البشر والحجر في الإسكندرية؟

بعد أكثر من ألفي عام صمدت خلالها في وجه الحروب والحرائق والكوارث، تواجه مدينة الإسكندرية المصرية التي يحيطها البحر الأبيض المتوسط من ثلاث جهات وتقع بحيرة في جنوبها، كارثة طبيعية تهددها بالكامل؛ فهي إحدى أكثر المناطق الساحلية المنخفضة عرضةً لخطر الغرق في العالم بسبب التغير المناخي. 

“طقس الإسكندرية تغير عن السابق”، هكذا يقول جورج سعد، مواطن سكندري، بدأ يشعر بأثر التغير المناخي على مدينته التي اكتست منذ أسابيع باللون الأبيض نتيجة تساقط الثلوج ويأمل في اتخاذ خطوات جادة لمكافحة التغير المناخي. 

الإسكندرية لم تعد ذات النسيم العليل!

يقول سعد إن الإسكندرية لم تعد ذات النسيم العليل صيفًا، بل ترتفع درجات الحرارة بشكل فج كل عام في فصل الصيف، وتشتد البرودة شتاءً، وهو ما ظهر جليًا في تساقط الأمطار بغزارة لم تشهدها المدينة فيما مضى من سنوات، كما أنها للمرة الأولى تشهد أمطارًا ثلجية بهذه الكثافة. ذلك نتيجة زيادة معدلات تبخر مياه البحر.

ويضيف في حديثه لـ”مناخ” أن المخاوف التي تنتابه كواحد من أهالي الإسكندرية تزداد سنويًا، خاصة وأن المدينة ليست مرتفعة عن مستوى الشاطئ، وبالتالي تكون أكثر عرضة للغرق وفق توقعات الخبراء، خاصة في ظل تقاعس الدول عن مواجهة خطر الاحتباس الحراري وفي ظل ضعف البنية التحتية يزداد الأمر تعقيدًا.

بحسب دراسة أجرتها الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة، عام 2019 سيرتفع مستوى سطح البحر لأكثر من مترين ما يعني أن العالم سيفقد مساحة من اليابسة تبلغ 1.79 مليون كيلومتر مربع، أي ما يعادل مساحة ليبيا كاملة. 

توقعات بغرق مساحة شاسعة من دلتا النيل

ويمثل هذا السيناريو كارثة للزراعة والأمن الغذائي في مصر، التي يُتوقع أن تشهد غرق مساحة شاسعة من دلتا النيل، التي تضم مدينة الإسكندرية التي يتجاوز تعداد سكانها خمسة ملايين شخص، ويشكل ناتجها الصناعي نحو 40 في المائة من إجمالي الناتج الصناعي المصري، وفقا لتقرير نشره موقع “BBC”.

يعتبر سعد أن تعامل المسئولين مع التقارير التي تحذر من غرق الإسكندرية بسبب التغير المناخي لا يجدي نفعًا في مواجهة هذه الكارثة المحتملة والتي – في رأيه – لن تمنعها مصدات الشوطئ، فمياه الأمطار مع سوء البنية التحتية وارتفاع منسوب مياه البحر كل ذلك يؤدي سنويًا إلى غرق الشوارع، فكيف سيكون مآل مدينته بعد سنوات؟

لكن سعد الذي تحدث عن زيادة شدة الرياح وانهيار المباني وتساقط الأشجار بسبب تغير المناخ لا زال يحدوه الأمل في أن يتجه العالم إلى الطاقة النظيفة واستخدام المنتجات المستدامة خلال السنوات المقبلة للحد من عملية التلوث البيئي والاحتباس الحراري.

وكانت الإسكندرية التي تعد ثاني أكبر المدن المصرية قد تعرضت عام 2015 لعاصفة شديدة أدت إلى فيضانات في عدد كبير من أحيائها وانهيار أكثر من 20 منزلاً ومقتل ستة أشخاص على الأقل، ما دفع بالحكومة إلى إنشاء المزيد من المصدّات البحرية لكسر الأمواج التي يجلبها المد.

ارتفاع منسوب مياه البحر المتوسط

وبحسب تقرير للجنة الأمم المتحدة حول التغير المناخي، صدر في عام 2019، فإن التغيرات المناخية من ارتفاع لدرجات الحرارة وذوبان جليد القطبين المتجمدين، تهدد بارتفاع منسوب مياه البحر المتوسط بين 25 و98 سنتيمتراً مع انتهاء القرن الحالي، ما سيؤدي إلى “عواقب وخيمة على المدن الساحلية ودلتا الأنهار والدول الواقعة تحت مستوى سطح البحر”.

وخصّ التقرير الأممي الإسكندرية بحكم موقعها الجغرافي وكون واجهتها البحرية تمتد لمسافة 60 كيلومتراً، ما يعني استثمارات هائلة من قبل الدولة لتقوية البنى التحتية الخاصة بمواجهة ارتفاع منسوب المياه. وأشار تقرير اللجنة إلى أنه ومنذ عام 2012 الأراضي التي أقيمت عليها المدينة ودلتا النيل المحيطة بها تغرق بمعدل 3.2 مليمترات سنوياً، وهي نسبة كافية لتهديد أساسات المباني والتسبب بكارثة كبرى.

وبخلاف تلك الكارثة المتوقعة أشار المهندس أحمد شحتوت، مهندس معماري، في تصريحات لـ”مناخ” إلى أثر سلبي حالي على الحياة العملية في الإسكندرية بسبب التغير المناخي، يقول: “من خلال مجال عملي استطيع أن أقول إن الأعمال الإنشائية تأثرت بسبب شدة الرياح/ تساقط الأمطار التي تؤدي إلى تعطل الأعمال كثيرا”. 

ساعات عمل مفقودة

برأي شحتوت فإن تعطل الأعمال يضر بعمال اليومية الذين يضيقون ذرعًا بسبب عدم تعويضهم ماديًا عن ساعات التوقف عن العمل، فضلاً عن تأخير التسليم لأصحاب الإنشاءات وما يسببه ذلك من خسائر مادية.. “فمن المستحيل أن تنتهي هذه الأعمال في ظل الطقس السيئ، خاصة التشطيبات الخارجية التي تتطلب عمل شدات وسقالات معدنية”.

وفي دراسة حديثة نُشرت نتائجها في مجلة “Environmental Research Letters”، قدر باحثون أن تغير المناخ هو المسؤول عن خسارة 25 مليار ساعة عمل إضافية سنويًا في الهند على مدار العشرين عامًا الماضية مقارنة بالسنوات العشرين السابقة، وأربعة مليارات ساعة إضافية سنويًا في الصين خلال نفس الفترة.

ويقول كبير الباحثين المشاركين في الدراسة لوك بارسونز، من جامعة ديوك إن نتائج هذه الدراسية تشير إلى أنه لا يتعين علينا انتظار 1.5 درجة مئوية من الاحتباس الحراري لتجربة تأثيرات تغير المناخ على العمالة والاقتصاد.

ويضيف: “قد يكون الاحترار الذي شهدناه بالفعل مرتبطًا بخسائر كبيرة في العمالة في الخلفية. يؤدي الاحترار المستقبلي الإضافي إلى تضخيم هذه التأثيرات”.

ويقطن الإسكندرية أكثر من خمسة ملايين شخص ويشكل ناتجها الصناعي نحو 40 في المائة من إجمالي الناتج الصناعي المصري. 

حواجز خرسانية ومصدات أمواج

وخصصت الحكومة المصرية مبلغاً يزيد على 120 مليون دولار لإقامة حواجز خرسانية ومصدات أمواج على طول الواجهة البحرية في الإسكندرية المعروفة باسم “الكورنيش”. وأنفقت نحو 14 مليون دولار بهدف حماية قلعة قايتباي ومكافحة ظاهرة تآكل السواحل عبر إحاطة القلعة التي تعد أكثر المواقع الأثرية عرضة لخطر الفيضانات في الإسكندرية،  بنحو 4700 كتلة خرسانية لحمايتها من ارتفاع منسوب المياه.

وخلال قمة المناخ العالمية بمدينة جلاسكو الأسكتلندية التي عقدت في أكتوبر ونوفمبر 2021، أطلق بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا تحذيرا صادما، قال فيه “استعدوا لفراق أحبابكم”، محذرا من اختفاء 3 مدن على مستوى العالم، من بينها الإسكندرية، وذلك في حال لم يتم اتخاذ إجراءات للحيلولة دون ارتفاع درجات الحرارة على سطح الأرض.

“أهالي العشوائيات هم أول ضحايا التغير المناخي في الإسكندرية، وهم في حاجة لمن يمد لهم يد العون”، يقول شحتوت، الذي دعا المسؤولين لإنقاذ سكان العشوائيات من التغير المناخي.

التهجير يهدد 8 ملايين شخص

ويتوقع تقرير أصدرته الهيئة الحكومية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، أن شواطئ الإسكندرية ستُغمر حتى مع ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار 0.5 متر، ما سيتسبب في تهجير نحو 8 ملايين شخص بسبب الفيضانات في الإسكندرية ودلتا النيل، بحلول عام 2050، إذا لم تُتخذ الإجراءات الوقائية اللازمة.

لكن وزيرة البيئة المصرية ياسمين فؤاد، تؤكد أن وزارة الموارد المائية والري تقوم ولسنوات طويلة بمجهودات كبيرة في عملية الإنذار المبكر لعمليات السيول وارتفاع مستوى سطح البحر والأمطار والعواصف، وخصصت أكثر من 7 مليارات جنيه لعمل إجراءات حماية في الشواطئ المصرية خاصة منطقة الإسكندرية.

وقالت ياسمين فؤاد خلال تصريحات تلفزيونية في نوفمبر 2021، إن وزارة الري قامت بعمل إجراءات حماية منذ سنوات لحماية قلعة قايتباي من الاختفاء، نظرا لأنها كانت مهددة بسبب ارتفاع منسوب سطح البحر مع السيول في الإسكندرية كل عام.

وأوضحت وزيرة البيئة أنه رغم وجود اتفاق بين دول العالم على أن حماية المناخ مسؤولية مشتركة بين الجميع، فإن مصر لم تحصل من تمويل المناخ سوى على 34 مليون دولار لإنشاء وعمل خطط لإجراءات حماية الشواطئ. 

ووفق فؤاد فإن انبعاثات مصر من تلوث الهواء لا تصل إلى 1%، من انبعاثات العالم، وتعمل البلاد بسرعة للتكيف المناخي ومواجهة التغيرات المناخية.

الضرر غير قاصر على البشر

وتقول مي حمادة، رئيس فريق الإسكندرية لإنقاذ السلاحف ومهتمة بالشأن البيئي، إن التغيرات المناخية تحدث في العالم أجمع بسبب عدة عوامل، من بينها الانبعاثات الكربونية، الاحتباس الحراري، قطع الأشجار واستخدام المبيدات، وتأثيرها ينعكس على البيئة ككل والذي شهد في عام 2020 ارتفاع درجات الحرارة أدت إلى كثرة حرائق الغابات، وزيادة العواصف والأمطار، وتؤدي في بعض الأحيان إلى الجفاف بسبب ندرة المطر.

وبالنسبة للإسكندرية قالت حمادة إن النوات أصبحت أشد عنفًا، ومنسوب البحر يرتفع تدريجيًا وتتآكل الشواطيء، وبالتالي لا تجد السلاحف مكانًا لبناء عششها فيه.. “السلاحف أيضا تتأثر بالتغيرات المناخية، حيث كانت تتواجد بكثرة سابقا إلا أن الوضع الآن تبدل فأصبح وجودها غير منتظم مع ارتفاع منسوب مياه البحر، على الرغم من أن ذلك ينصب في مصلحتها بسبب عدم التمكن من صيدها في هذا التوقيت”.

وناشدت حمادة بضرورة الحد من مسببات التغير المناخي على مستوى العالم، والتي يأتي على رأسها استخدام الوقود الأحفوري، وإزالة الغابات، وزيادة تربية الماشية، فالبقر والأغنام مثلًا تنتج كميات كبيرة من غاز الميثان المسؤول عن حوالي 30% من الاحترار منذ حقبة ما قبل العصر الصناعي.

هؤلاء أكثر عرضة للتضرر بظاهرة تغير المناخ

يذكر أن  نحو 680 مليون شخص (ما نسبته 10% من سكان العالم)، يقطنون مناطق ساحلية منخفضة، ترتفع أقل من 10 أمتار عن مستوى سطح البحر، ويُتوقع أن تصل أعداد ساكني تلك المناطق إلى مليار شخص بحلول عام 2050، بحسب اللجنة الدولية لتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة.

ويعتبر هؤلاء الأكثر عرضة للتضرر بظاهرة تغير المناخ، التي تعد سبباً رئيسيا في ارتفاع مستوى سطح البحر؛ إذ تسببت ظاهرة الاحتباس الحراري الناجم عن انبعاثات الغازات الدفيئة فيما شهدته المحيطات من ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة، على مدى العقود التي شكلت القرن الماضي.

وتطل دول شمال إفريقيا والخليج على سواحل الخليج والبحر الأبيض المتوسط وبحر العرب، وتُعد البلدان ذات المناطق الساحلية المنخفضة ودلتا الأنهار الواسعة منها، مثل مصر والعراق، أكثر عرضة لخطر الفيضانات بما تحمله من عواقب كارثية على البنى التحتية والسكان والزراعة وإمدادات المياه العذبة، ناهيك عن الخسائر الحضارية التي ستمتد إلى طي بعض أبرز المعالم التاريخية التي نعرفها في جوف البحر.

وتتنبأ دراسة أجرتها منظمة المناخ المركزية، عام 2018، بغرق مساحة تصل إلى 734 كيلومترا في دلتا النيل بحلول عام 2050، ويتوقع أن تتوسع إلى 2660 كيلومترا بحلول نهاية القرن، ما يعني تعرض كامل مساحة الإسكندرية لخطر الغرق.

وفيما يتعلق بدلتا النيل، تمتد تأثيرات الظاهرة لتشمل الأمن الغذائي لمصر؛ إذ تؤكد التقارير العلمية حدوث حالة تسرب بطيئة لمياه البحر المتوسط إلى أراضي الدلتا المنخفضة بطبيعتها عن سطح البحر، وتتمثل خطورة ذلك في تشبع نحو 60% من تلك الأراضي الخصبة بالأملاح، ما يجعلها غير صالحة للزراعة، والأزمة هنا أن تلك المنطقة تنتج نحو ثلثي احتياجات مصر من الغذاء.